كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن إسحاق وغيره لما كان التفريط منهم في بنيامين مترتبا على صنيعهم في يوسف قال لهم ما قال وهذا كما قال بعض السلف إن من جزاء السيئة السيئة بعدها ثم قال: {عسى الله أن يأتيني بهم جميعا} يعني يوسف وبنيامين وروبيل {إنه هو العليم} أي بحالي وما أنا فيه من فراق الأحبة {الحكيم} فيما يقدره ويفعله وله الحكمة البالغة والحجة القاطعة {وتولى عنهم} أي أعرض عن بنيه {وقال يا أسفي على يوسف} ذكره حزنه الجديد بالحزن القديم وحرك ما كان كامنا كما قال بعضهم:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ** ما الحب إلا للحبيب الأول

وقال آخر:
لقد لامني عند القبور على البكا ** رفيقي لتذراف الدموع السوافك

فقال أتبكي كل قبر رأيته ** لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك

فقلت له إن الأسى يبعث الأسى ** فدعني فهذا كله قبر مالك

وقوله: {وابيضت عيناه من الحزن} أي من كثرة البكاء {فهو كظيم} أي مكظم من كثرة حزنه وأسفه وشوقه إلى يوسف فلما رأى بنوه ما يقاسيه من الوجد وألم الفراق قالوا له على وجه الرحمة له والرأفة به والحرص عليه {تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين} يقولون لا تزال تتذكره حتى تنحل جسدك وتضعف قوتك فلو رفقت بنفسك كان أولى بك {قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون} يقول لبنيه لست أشكو إليكم ولا إلى أحد من الناس ما أنا فيه إنما أشكو إلى الله عز وجل وأعلم أن الله سيجعل لي مما أنا فيه فرجا ومخرجا وأعلم أن رؤيا يوسف لابد أن تقع ولابد أن أسجد له أنا وأنتم حسب ما رأى ولهذا قال: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} ثم قال لهم محرضا على تطلب يوسف وأخيه وأن يبحثوا عن أمرهما: {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} أي لا تيئسوا من الفرج بعد الشدة فإنه لا ييأس من روح الله وفرجه وما يقدره من المخرج في المضايق إلا القوم الكافرون.
{فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين}.
يخبر تعالى عن رجوع إخوة يوسف إليه وقدومهم عليه ورغبتهم فيما لديه من الميرة والصدقة عليهم رد أخيهم بنيامين إليهم {فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر} أي من الجدب وضيق الحال وكثرة العيال {وجئنا ببضاعة مزجاة} أي ضعيفة لا يقبل مثلها منا إلا أن يتجاوز عنا قيل كانت دراهم رديئة وقيل قليلة وقيل حب الصنوبر وحب البطم ونحو ذلك وعن ابن عباس كانت خلق الغرائر والحبال ونحو ذلك {فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين} قيل بقبولها قاله السدي وقيل برد أخينا إلينا قاله ابن جريج وقال سفيان بن عيينة إنما حرمت الصدقة على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ونزع بهذه الآية رواه ابن جرير فلما رأى ما هم فيه من الحال وما جاؤوا به مما لم يبق عندهم سواه من ضعيف المال تعرف إليهم وعطف عليهم قائلا لهم عن أمر ربه وربهم.
وقد حسر لهم عن جبينه الشريف وما يحويه من الخال فيه الذي يعرفون {هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون} قالوا وتعجبوا كل العجب وقد ترددوا إليه مرارا عديدة وهم لا يعرفون أنه هو: {أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي} يعني أنا يوسف الذي صنعتم معه ما صنعتم وسلف من أمركم فيه ما فرطتم وقوله: {وهذا أخي} تأكيد لما قال وتنبيه على ما كانوا أضمروا لهما من الحسد وعملوا في أمرهما من الاحتيال ولهذا قال: {قد من الله علينا} أي بإحسانه إلينا وصدقته علينا وإيوائه لنا وشده معاقد عزنا وذلك بما أسلفنا من طاعة ربنا وصبرنا على ما كان منكم إلينا وطاعتنا وبرنا لأبينا ومحبته الشديدة لنا وشفقته علينا {إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا} أي فضلك وأعطاك ما لم يعطنا {وإن كنا لخاطئين} أي فيما أسدينا إليك وها نحن بين يديك {قال لا تثريب عليكم اليوم} أي لست أعاقبكم على ما كان منكم بعد يومكم هذا ثم زادهم على ذلك فقال: {اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}.
ومن زعم أن الوقف على قوله: {لا تثريب عليكم} وابتدأ بقوله: {اليوم يغفر الله لكم} فقوله ضعيف والصحيح الأول ثم أمرهم بأن يذهبوا بقميصه وهو الذي يلي جسده فيضعوه على عيني أبيه فإنه يرجع إليه بصره بعد ما كان ذهب بإذن الله وهذا من خوارق العادات ودلائل النبوات وأكبر المعجزات ثم أمرهم أن يتحملوا بأهلهم أجمعين إلى ديار مصر إلى الخير والدعة وجمع الشمل بعد الفرقة على أكمل الوجوه وأعلى الأمور.
{وفلما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله مالا تعلمون قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم}.
قال عبدالرزاق أنبأنا إسرائيل عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل سمعت ابن عباس يقول: {فلما فصلت العير} قال لما خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال: {إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون} قال فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام وكذا رواه الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي سنان به وقال الحسن البصري وابن جريج المكي كان بينهما مسيرة ثمانين فرسخا وكان له منذ فارقه ثمانون سنة وقوله: {لولا أن تفندون} أي تقولون إنما قلت هذا من الفند وهو الخرف وكبر السن قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة تفندون تسفهون وقال مجاهد أيضا والحسن تهرمون {قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم}.
قال قتادة والسدي قالوا له كلمة غليظة قال الله تعالى: {فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا} أي بمجرد ما جاء ألقى القميض على وجه يعقوب فرجع من فوره بصيرا بعد ما كان ضريرا وقال لبنيه عند ذلك: {ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون} أي اعلم أن الله سيجمع شملي بيوسف وستقر عيني به وسيريني فيه ومنه ما يسرني فعند ذلك {قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين} طلبوا منه أن يستغفر لهم الله عز وجل عما كانوا فعلوا ونالوا منه ومن ابنه وما كانوا عزموا عليه ولما كان من نيتهم التوبة قبل الفعل وفقهم الله للإستغفار عند وقوع ذلك منهم فأجابهم أبوهم إلى ما سألوا وما عليه عولوا قائلا: {سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم}.
قال ابن مسعود وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم أرجأهم إلى وقت السحر قال ابن جرير حدثني أبو السائب حدثنا ابن إدريس سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب ابن دثار قال كان عمر يأتي المسجد فسمع انسانا يقول اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت وهذا السحر فاغفر لي قال فاستمع الصوت فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود فسأل عبد الله عن ذلك فقال إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله: {سوف أستغفر لكم ربي} وقد قال الله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} وثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من تائب فأتوب عليه هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له».
وقد ورد في حديث أن يعقوب أرجأ بنيه إلى ليلة الجمعة قال ابن جرير حدثني المثنى ثنا سليمان بن عبد الرحمن بن أيوب الدمشقي حدثنا الوليد أنبأنا ابن جريج عن عطاء وعكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {سوف أستغفر لكم ربي} يقول حتى تأتي ليلة الجمعة وهو قول أخي يعقوب لبنيه وهذا غريب من هذا الوجه وفي رفعه نظر والأشبه أن يكون موقوفا على ابن عباس رضي الله عنه.
{فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين أخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين}.
هذا إخبار عن حال إجتماع المتحابين بعد الفرقة الطويلة التي قيل أنها ثمانون سنة وقيل ثلاثة وثمانون سنة وهما روايتان عن الحسن وقيل خمس وثلاثون سنة قاله قتادة وقال محمد ابن إسحاق ذكروا أنه غاب عنه ثماني عشرة سنة قال وأهل الكتاب يزعمون أنه غاب عنه أربعين سنة وظاهر سياق القصة يرشد إلى تحديد المدة تقريبا فإن المرأة راودته وهو شاب ابن سبع عشرة سنة فيما قاله غير واحد فامتنع فكان في السجن بضع سنين وهي سبع عند عكرمة وغيره ثم أخرج فكانت سنوات الخصب السبع ثم لما أمحل الناس في السبع البواقي جاء إخوتهم يمتارون السنة الأولى وحدهم وفي الثانية ومعهم أخوه بنيامين وفي الثالثة تعرف إليهم وأمرهم بإحضار اهلهم أجمعين فجاؤا كلهم فلما دخلوا عليه آوى إليه أبويه اجتمع بها خصوصا وحدهما دون إخوته وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين قيل هذا من المقدم والمؤخر تقديره ادخلوا مصر وآوى إليه أبويه وضعفه ابن جرير وهو معذور قيل تلقاهما وآواهما في منزل الخيام ثم لما اقتربوا من باب مصر قال: {ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين} قاله السدي ولو قيل إن الأمر لا يحتاج إلى هذا أيضا وأنه ضمن قوله: {ادخلوا} معنى اسكنوا مصر أو أقيموا بها إن شاء الله آمنين لكان صحيحا مليحا أيضا.
وعند اهل الكتاب أن يعقوب لما وصل إلى أرض جاشر وهي أرض بلبيس خرج يوسف لتلقيه وكان يعقوب قد بعث ابنه يهوذا بين يديه مبشرا بقدومه وعندهم أن الملك أطلق لهم أرض جاشر يكونون فيها ويقيمون بها بنعمهم ومواشيهم وقد ذكر جماعة من المفسرين انه لما أزف قدوم نبي الله يعقوب وهو إسرائيل اراد يوسف أن يخرج لتلقيه فركب معه الملك وجنوده خدمة ليوسف وتعظيما لنبي الله إسرائيل وأنه دعا للملك وأن الله رفع عن أهل مصر بقية سني الجدب ببركة قدومه إليهم فالله أعلم.
وكان جملة من قدم مع يعقوب من بنيه وأولادهم فيما قاله أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن ابن مسعود ثلاثة وستين إنسانا وقال موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن عبد الله بن شداد كانوا ثلاثة وثمانين إنسانا وقال أبو إسحاق عن مسروق دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون إنسانا قالوا وخرجوا مع موسى وهم أزيد من ستمائة ألف مقاتل وفي نص أهل الكتاب أنهم كانوا سبعين نفسا وسموهم قال الله تعالى: {ورفع أبويه على العرش} قيل كانت أمه قد ماتت كما هو عند علماء التوراة وقال بعض المفسرين فأحياها الله تعالى وقال آخرون بل كانت خالته ليا والخالة بمنزلة الأم وقال ابن جرير وآخرون بل ظاهر القرآن يقتضي بقاء حياة أمه إلى يومئذ فلا يعول على نقل أهل الكتاب فيما خالفه وهذا قوي والله أعلم ورفعهما على العرش أي أجلسهما مع على سريره {وخروا له سجدا} أي سجده له الأبوان والاخوة الأحد عشر تعظيما وتكريما وكان هذا مشروعا لهم ولم يزل ذلك معمولا به في سائر الشرائع حتى حرم في ملتنا وقالت يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل أي هذا تعبير ما كنت قصصته عليك من رؤيتي الأحد عشر كوكبا والشمس والقمر حين رأيتهم لي ساجدين وأمرتني بكتمانها ووعدتني ما وعدتني عند ذلك {قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن} أي بعد الهم والضيق جعلني حاكما نافذ الكلمة في الديار المصرية حيث شئت {وجاء بكم من البدو} أي البادية وكانوا يسكنون أرض العربات من بلاد الخليل {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} أي فيما كان منهم إلي من الأمر الذي تقدم وسبق ذكره ثم قال: {إن ربي لطيف لما يشاء} أي إذا أراد شيئا هيأ أسبابه ويسرها وسهلها من وجوه لا يهتدي إليها العباد بل يقدرها وييسرها بلطيف صنعه وعظيم قدرته {إنه هو العليم} أي بجميع الأمور {الحكيم} في خلقه وشرعه وقدره.
وعند أهل الكتاب أن يوسف باع أهل مصر وغيرهم من الطعام الذي كان تحت يده بأموالهم كلها من الذهب والفضة والعقار والأثاث وما يملكونه كله حتى باعهم بانفسهم فصاروا أرقاء ثم أطلق لهم أرضهم وأعتق رقابهم على أن يعملوا ويكون خمس ما يشتغلون من زرعهم وثمارهم للملك فصارت سنة أهل مصر بعده.
وحكى الثعلبي أنه كان لا يشبع في تلك السنين حتى لا ينسى الجيعان وأنه إنما كان يأكل أكلة واحدة نصف النهار قال فمن ثم اقتدى به الملوك في ذلك قلت وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يشبع بطنه عام الرمادة حتى ذهب الجدب وأتى الخصب.
قال الشافعي قال رجل من الأعراب لعمر بعد ما ذهب عام الرمادة لقد انجلت عنك وإنك لابن حرة ثم لما رأى يوسف عليه السلام نعمته قد تمت وشمله قد إجتمع عرف أن هذه الدار لا يقربها قرار وأن كل شيء فيها ومن عليها فان وما بعد التمام إلا النقصان فعند ذلك أثنى على ربه بما هو أهله واعترف له بعظيم إحسانه وفضله وسأل منه وهو خير المسؤلين أن يتوفاه أي حين يتوفاه على الإسلام وأن يلحقه بعباده الصالحين وهكذا كما يقال في الدعاء اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين أي حين تتوفانا ويحتمل أنه سأل ذلك عند احتضاره عليه السلام كما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عند احتضاره أن يرفع روحه إلى الملأ الاعلى والرفقاء الصالحين من النبيين والمرسلين كما قال اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثا ثم قضى.
ويحتمل أن يوسف عليه السلام سأل الوفاة على الإسلام منجزا في صحة بدنه وسلامته وأن ذلك كان سائغا في ملتهم وشرعتهم كما روي عن ابن عباس أنه قال ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف فأما في شريعتنا فقد نهي عن الدعاء بالموت إلا عند الفتن كما في حديث معاذ في الدعاء الذي رواه أحمد وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين وفي الحديث الآخر ابن آدم الموت خير لك من الفتنة وقالت مريم عليها السلام: {يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا} وتمنى الموت علي بن أبي طالب لما تفاقمت الأمور وعظمت الفتن واشتد القتال وكثر القيل والقال وتمنى ذلك البخاري أبو عبد الله صاحب الصحيح لما اشتد عليه الحال ولقي من مخالفيه الأهوال.
فأما في حال الرفاهية فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به إما محسنا فيزداد وإما مسيئا فلعله يستعتب ولكن ليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي والمراد بالضر هاهنا ما يخص العبد في بدنه من مرض ونحوه لا في دينه والظاهر أن نبي الله يوسف عليه السلام سأل ذلك إما عند احتضاره أو إذا كان ذلك أن يكون كذلك.
وقد ذكر ابن إسحاق عن أهل الكتاب أن يعقوب أقام بديار مصر عند يوسف سبع عشرة سنة ثم توفي عليه السلام وكان قد أوصى إلى يوسف عليه السلام أن يدفن عند أبويه إبراهيم وإسحاق قال السدي فصبر وسيره إلى بلاد الشام فدفنه بالمنارة عند أبيه إسحاق وجده الخليل عليهم السلام.
وعند أهل الكتاب أن عمر يعقوب يوم دخل مصر مائة وثلاثون سنة وعندهم أنه أقام بأرض مصر سبع عشرة سنة ومع هذا قالوا فكان جميع عمره مائة وأربعين سنة هذا نص كتابهم وهو غلط إما في النسخة أو منهم أو قد أسقطوا الكسر وليس بعادتهم فيما هو أكثر من هذا فكيف يستعملون هذه الطريقة هاهنا وقد قال تعالى في كتابه العزيز: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون} يوصي بنيه بالإخلاص وهو دين الإسلام الذي بعث الله به الأنبياء عليهم السلام.
وقد ذكر أهل الكتاب أنه أوصى بنيه واحدا واحدا وأخبرهم بما يكون من أمرهم وبشر يهوذا بخروج نبي عظيم من نسله تطيعه الشعوب وهو عيسى بن مريم والله أعلم.
وذكروا أنه لما مات يعقوب بكى عليه أهل مصر سبعين يوما وأمر يوسف الأطباء فطيبوه بطيب ومكث فيه أربعين يوما ثم استأذن يوسف ملك مصر في الخروج مع أبيه ليدفنه عند أهله فأذن له وخرج معه أكابر مصر وشيوخها فلما وصلوا حبرون دفنوه في المغارة التي كان اشتراها إبراهيم الخليل من عفرون بن صخر الحيثي وعملوا له عزاء سبعة أيام قالوا ثم رجعوا إلى بلادهم وعزى إخوة يوسف ليوسف في أبيهم وترققوا له فأكرمهم وأحسن منقلبهم فأقاموا ببلاد مصر ثم حضرت يوسف عليه السلام الوفاة فأوصى أن يحمل معهم إذا خرجوا من مصر فيدفن عند آبائه فحنطوه ووضعوه في تابوت فكان بمصر حتى أخرجه معه موسى عليه السلام فدفنه عند آبائه كما سيأتي قالوا فمات وهو ابن مائة سنة وعشر سنين هذا نصهم فيما رأيته وفيما حكاه ابن جرير أيضا وقال مبارك بن فضالة عن الحسن ألقى يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة وغاب عن أبيه ثمانين سنة وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة ومات وهو ابن مائة سنة وعشرين سنة وقال غيره أوصى إلى أخيه يهوذا صلوات الله عليه وسلامه. اهـ.